حماس وإحياء القضية- الغطرسة الإسرائيلية وتكاليف النضال الفلسطيني

من بين الأهداف الجليلة التي أنجزتها حركة "حماس" في غمار هذه الحرب الطاحنة، يبرز بجلاء إحياء القضية الفلسطينية، وتسليط الضوء على هشاشة الردع الذي طالما تباهت به إسرائيل، زاعمة أنه الضمان لأمنها واستمرار احتلالها البغيض، وتمددها الاستيطاني الجامح، وتقويض حُلم الفلسطينيين بالخلاص الوطني، فكل ذلك بات عرضة للتصدع والانهيار ما دام النضال الفلسطيني مستمرًا ومتوقدًا.
وبغض النظر عن الأسباب الموضوعية العديدة التي أدت إلى انفجار حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإنها جميعًا تتلاقى وتتفق على سبب جوهري وأساسي واحد، ألا وهو الصلف والغطرسة الإسرائيلية المتأصلة. فحاصلة ثمانية عقود من الصراع المرير تكشف بجلاء كيف أن هذه الغطرسة المتجذرة، التي صُممت في الأصل لمعاقبة الفلسطينيين على تبنّيهم خيار النضال في مواجهة الاحتلال الغاشم، هي في الواقع إحدى أبرز نقاط ضعف إسرائيل وأكثرها وضوحًا.
لقد تسببت هذه الغطرسة بتكاليف باهظة وأثمان غالية تكبدها الفلسطينيون، إلا أنها باءت بالفشل الذريع في إخضاعهم وإجبارهم قسرًا على التخلي عن خيار النضال الوطني المقدس. وفي المقابل، كان شعور القوة الزائف، الذي منحته لمشروع الاحتلال الاستيطاني، شعورًا مخادعًا ومضللًا في كثير من الأحيان. فهي من جانب أولًا لم تستطع طمس الوعي الفلسطيني الجمعي أو تزييفه أبدًا. ومن جانب آخر، أوهمت إسرائيل بقدرتها الزائفة على أن تُصبح دولة طبيعية مندمجة في المجتمع الدولي دون الحاجة الملحة إلى الانخراط الجاد في سلام حقيقي مع الفلسطينيين على قاعدة حلّ الدولتين العادل.
وفي نظرة فاحصة على سياق نزعة الغطرسة الإسرائيلية المتأصلة، نجد أنها لم تترك خيارًا آخر للفلسطينيين للتعبير عن قضيتهم العادلة بشكل قوي وفاعل سوى اللجوء إلى الوسائل الباهظة التكاليف عليهم، والتي تتسبب لهم بالخسائر الفادحة.
في المنعطفات التاريخية الكبيرة والمفصلية التي مرّت بها القضية الفلسطينية، اعتاد الفلسطينيون الأبطال على دفْع مثل هذه التكاليف الباهظة عن طيب خاطر. والسبب ببساطة ووضوح أنهم لم يحصدوا طوال تاريخهم النضالي سوى الخيبات المتتالية والإخفاقات المريرة من الوسائل الأخرى الأقلّ تكلفة عليهم من حيث الدماء الزكية والمعاناة الإنسانية، مثل خيار السلام الذي طالما سعوا إليه.
بينما تبنّت منظمة التحرير الفلسطينية خيار السلام العادل أملًا بالوصول المنشود إليه، فإن إسرائيل عمدت إلى استغلاله كورقة رابحة ووسيلة أقل تكلفة لإطالة أمد احتلالها للأراضيَ الفلسطينية المحتلة، وتوسيع مشروعها الاستيطاني السرطاني، وتغذية الانقسام الفلسطيني المرير. كل ذلك كان بمثابة وصفة جاهزة ومدروسة لمواصلة إدارة الصراع بالطريقة التي تُفضلها إسرائيل وتخدم مصالحها.
نتائج ثلاثة عقود من الصراع المرير منذ أن أبرمت السلطة الفلسطينية اتفاقية أوسلو المشؤومة مع إسرائيل في عام 1993، تُثبت بالدليل القاطع أن خيار السلام الفلسطيني المبني على التجرد الكامل من النضال المشروع لم يؤدِ سوى إلى إطالة أمد معاناة الفلسطينيين مع الاحتلال البغيض. كما أنه حوّل منظمة التحرير الوطني من منظمة ثورية وظيفتها الأساسية الوصول إلى التحرير المنشود، إلى مُجرد أداة طيّعة لإدارة الاحتلال على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
مع ذلك، فإن العُقدة الرئيسية المعيقة أمام الوصول إلى التحرّر الفلسطيني المنشود لم تكن في خيارات منظمة التحرير الوطني أو في انقسام الصف الوطني الفلسطيني المؤسف، بقدر ما كانت في إسرائيل نفسها وسياساتها العدوانية.
هذه الحقيقة الساطعة يتجاهل الغرب المنافق على وجه الخصوص الإقرار بها والاعتراف بوجودها. فتحميل المقاومة الفلسطينية الباسلة مسؤولية حرب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لا يقفز على هذه الحقيقة فحسب، بل يُستخدم أيضًا كوسيلة ماكرة للتغطية على الدور المشين الذي يلعبه الغرب في إطالة أمد معاناة الفلسطينيين مع الاحتلال الغاشم، ومضاعفة جاذبية الغطرسة والصلف في السياسة الإسرائيلية.
إن محاولة معاقبة الفلسطينيين على الخيارات الصعبة التي أُجبروا قسرًا على تبنّيها من أجل إظهار للعالم أجمع أن حقوقهم المشروعة بالتحرر والعيش بكرامة لا تسقط بالتقادم، تعمل بشكل مباشر كوصفة جاهزة لتعزيز نزعة الغطرسة الإسرائيلية المتأصلة.
ليس المهم اليوم إقناع الفلسطينيين بالتخلي عن نهج المقاومة والكفاح المشروع بمُجرد إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة؛ لأنهم يُقاتلون أصلًا ببسالة وشجاعة لتحقيق هذا الهدف النبيل. كما ليس من المهم إعادة إنتاج منظمة التحرير الفلسطينية إذا كانت هذه العملية ستُصمم لخداع الفلسطينيين مرّة أخرى بدولة وهمية، لا يُشير واقع الاحتلال الاستيطاني اليوم إلى إمكانية تحقيقها على أرض الواقع في المستقبل المنظور. بل الأمر الأكثر أهمية وإلحاحًا من كل ذلك هو إجبار إسرائيل بكل الوسائل الممكنة على التخلي عن نزعة الغطرسة والصلف.
لقد عززت حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول المباركة ثلاث حقائق كبيرة وواضحة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي المرير.
- الأولى: أن الغطرسة الإسرائيلية لم تؤدِ عبر التاريخ سوى إلى إطالة أمد هذا الصراع الدامي وانسداد أفق السلام المنشود.
- الثانية: تعزيز إيمان راسخ لدى شريحة واسعة من الفلسطينيين بأن المقاومة الباسلة هي حاجة ملحة وضرورة حتمية وليست مجرد خيار ثانوي إذا ما أرادوا الحفاظ على قضيتهم العادلة حيّة ومتوهجة في الضمير العالمي.
- الثالثة: أن إسرائيل لن يُمكن أن تُصبح يومًا دولة طبيعية تنعم بالأمن والاستقرار ومُندمجة بشكل حقيقي في محيطها الإقليمي إذا لم يحصل الفلسطينيون على دولتهم المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف.
إذا لم يتعامل العالم بأسره مع هذه الحقائق الجلية كما ينبغي بعد حقبة السابع من أكتوبر/تشرين الأول المجيد، فإن هذه الحرب الدائرة لن تكون حتمًا الأخيرة في مسار هذا الصراع الطويل والممتد.
كما أن الآثار المستقبلية لهذا الصراع على الأمن الإقليمي والدولي ستكون أشدّ خطورة وتدميرًا من الآثار الحالية لهذه الحرب. وفكرة أن إسرائيل قادرة بعد هذه الحرب على إعادة إدارة صراعها المرير مع الفلسطينيين بالطريقة التي اعتادت عليها في الماضي، أصبحت فكرة منفصلة تمامًا عن الواقع الجديد الذي أفرزه السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
لقد أمضى كثير من الرؤساء الأميركيين والقادة الغربيين والإقليميين عقودًا طويلة في التفكير العميق بالكيفية المثلى التي يُمكن أن ينتهي بها هذا الصراع المستمر.
لكنّ النقطة الأساسية والجوهرية التي تُشكل أرضية صلبة ومناسبة وأكثر فاعلية للتفكير البنّاء في مشاريع الحلول الجذرية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، تبدأ من التركيز الشديد على الكيفية التي تعمل على تقليص نزعة الغطرسة والصلف في السياسة الإسرائيلية تُجاه الفلسطينيين؛ لأن ذلك هو السبيل الوحيد الذي يجعل الإسرائيليين يُدركون حقيقة دامغة مفادها أن احتلالهم الغاشم لا يُمكن أن يستمر إلى الأبد، وأن التكاليف الباهظة عليهم تتحول مع مرور الوقت إلى تشكيل تهديد وجودي حقيقي على إسرائيل نفسها.
عندما زار الرئيس الأميركي جو بايدن إسرائيل بعد اندلاع الحرب الأخيرة، نصح القادة الإسرائيليين بتجنّب تكرار الخطأ الفادح الذي وقعت به الولايات المتحدة الأميركية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول المشؤومة، عندما اعتقدت الولايات المتحدة اعتقادًا خاطئًا أن استخدام القوة الغاشمة وحدها يُمكن أن يقضي على التطرف والإرهاب.
مع أن لجوء بايدن إلى هذه المقارنة كان مُضللًا إلى حد كبير؛ لأنه سعى بكل ما أوتي من قوة لتجريم النضال الوطني الفلسطيني المشروع ووضعه على مسافة واحدة مع التطرف والإرهاب، فإنه كان واقعيًا ومحقًا لجهة أنه يُعزز حقيقة دامغة مفادها أن الغطرسة الإسرائيلية قد حصدت نتائج وخيمة مشابهة لتلك التي حصدتها الغطرسة الأميركية في كل من أفغانستان والعراق.
